بقلم: مصطفى الشنضيض
كان للدولة المدنية دور كبير في إخراج الدين من الفوضى العارمة التي سادت في القرن السادس والسابع عشر، والتي أوغلت الجماهير الأوروبية في التطاحن والقتال حتى كلفت أوروبا الملايين من الدماء المسالة باسم الدين والانتصار له، والتي في حقيقتها هي انتصارات لسيادات كَنَسية وإمباطورية، خوفا من فقدان إحكام السيطرة على الأوضاع الجديدة المتمثلة في توسع البروتستانتية التي بدأت تعرف قبولا ونجاحا كبيرين من جهة، وكذلك بانزعاج الكاتوليك من الأوضاع العلمية الجديدة التي فرضها كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو، والتي أحرجت رجال الكنيسة المتبنين للدوغمائيات البائدة السائدة، من جهة ثانية، وكذلك من انزعاجها من المقولات الفلسفية العقلية الجديدة التي جاءت مع ديكارت وسبينوزا ولايبنيتز، المتعلقة باللاهوت، من جهة ثالثة، وكذلك أفكار الفلسفة السياسية التي بلورها فلاسفة العقد الاجتماعي لوك وهوبز وروسو، والتي عرفت اعتناقا واسعا في الأوساط المتوسطة والفقيرة من جهة رابعة، والتي تحولت فيما بعد إلى تكثلات وتحالفات ناضلت من أجل فرض مبادئها في الوضع الاجتماعي الجديد وتثبيته على أرض الواقع، الشيء الذي لم يكن سهل المنال وإنما كلف أوروبا إزهاق ملايين الأرواح وحصاد كثير من المنشآت.
هذا ودون أن ننسى أن ما فرضه الوضع الاكتشافي الجديد لأمريكيا الشمالية والجنوبية من تنافس وتصارع حول مناطق النفوذ، يعد عاملا وجوهرا أرغم أوروبا على تطوير جانب الاجتماع السياسي، وتقدمها نحو التنظيم والتعددية والحرية وسلطة القانون وحقوق الإنسان شيئا فشيئا، توخيا لانسجام وتناغم التعايش والتساكن بين مواطنيها.
ومن هنا نجد أن فكرة سيادة الدولة قد استُلهمت من سيادة الدين في اللاهوت المسيحي والنظام الباطرياركي السائد في ذلك الوقت، فصارت السيادة للقانون، وسلطان الدولة، الضامنة للأمن والاستقرار المواطنين، ونيل حقوقهم؛ بعد أن تنازل المواطنون عنها للدولة، وخولوا إليها حق استعمال القوة الذي كان متفرقا بين الأفراد بعشوائية ولا مسؤولية في الحالة البدائية قبل الاجتماعي السياسي وسيادة القانون. وبهذا تحول مبدإ السيادة الموحدة المطلقة من الدين إلى الدولة، فأصبح الدين نفسه يخضع لها، يعني أن الدولة صارت إلـهاً فانيا، ينوب عن الإله الباقي، إلا أن سلطتها لم تستحق السيادة بموجب التعالي وإنما بموجب التعاقد الاجتماعي.
ومن جهة أخرى نجد الدين هو الملهِم الأقوى لمبدأ التعاقد بين المواطنين والدولة في الدولة المدنية، وهي التي اقتبست أسسها من نظرية الولاء المزدوج أو العقد المزدوج، عقد أول بين الإله والإنسان كفكرة توراتية قديمة، أي فكرة الشعب الذي عهد إليه الله شرائع يجب عليهم اتباعها والقيام بها، وعقد ثانٍ بين المواطن والدولة؛ فأدخل توماس هوبز هذا المفهوم الديني اللاهوتي في المفهوم السياسي، بحيث صار وجوب الطاعة المطلقة للدولة فقط، بحيث لا يبقى عقد غير العقد الاجتماعي بين المواطنين ودولتهم، سواء من جهتهم كسلطة تشريعة أو مصدر لها، أو كمواطنين أفراد ملتزمين عن طريق الخضوع للقانون.
فصارت الطاعة واجبة لسلطة الدولة، وهي التي كانت قبل ذلك تجب لرجال الكنيسة قبلها باعتبارهم نائبين عن الله ومخاطِبين للناس باسمه.
فالدولة لم تكتف فقط بتسلُّم مبدأ التعاقد والطاعة من الدين أو رجال الكنيسة تحديدا، وإنما زادت الدولة على ذلك بأن أخذت على عاتقها حتى تأويل النص الديني بدلا من الإبقاء على التفسيرات السائدة.
فأخذت الدولة من الدين مبادئه الخالدة وقيمه السامية كالأمن والحرية والعدل وعملت على خدمتها وإشاعتها وتحقيقها عبر القرون باجتهادات متتالية وتجارب متراكمة، خولتها التحيّن في تصور مضامينها، كما التطوّر في تنزيل مبادئها حينا بعد حين، ولا أدلَّ على ذلك من أنه إلى الآن مجلس اللوردات البريطاني فيه عشرون عضوا من اللوردات الروحيين من أعلى أساقفة كنيسة إنجلترا، واللوردات الدنيويون ممثلون بالنبلاء، وهؤلاء لا يتم انتخابهم، وإنما تعيينهم.
وهكذا استلمت الدولة المسؤوليات الدينية، ولم تتركها للكنيسة ولا للأشخاص. فعَلَت ذلك، لتضمن حق التدين للأفراد بكل حرية، سواء كان واحدا أو أكثر، بحيث لا يعود المعتنقون للأديان إلى التطاحن والتقاتل باسم الدين بدعوى امتلاك كلِّ جهةٍ للحقيقة المطلقة، وبالتالي القتال حتى الموت من أجل إحقاق هذه الحقيقة وتثبيتها في المجتمع وفرضها على الأفراد، والقضاء على المخالفين. فسنت الأجهزة التشريعية للدولة القوانين للحفاظ على حق التدين، وحرية ممارسته، دون تدخل بعضهم في البعض الآخر. فهي بذلك ترعى الدين وتشرف عليه من جهة ضمان استمراره بين الناس، وتقنين سيرورته، بما يتواءم مع حركة التاريخ.
ومن هنا نعلم أن أوروبا نظمت علاقتها مع الدين، ونجحت في مد قنوات العلاقات معه، بحيث يصير التعاطي معه ذهابا وإيابا بين الدين والدولة بسلاسة وانسيابية وبتراض تام وبتصالح مقبول يستفيد منه جميع الأطراف.
مصطفى الشنضيض
أستاذ باحث في الشريعة والفكر الإسلامي
السلام عليكم
عفوا ، لكن على الرغم من إتخاذ بعض (وليس كل) مبادىء الدين، إلا أن هذه المبادىء لاتنسب أيضا للدين، فكيف يكون هناك إتزان في العلاقة مع الدين بهذه الطريقة؟!