كتاب وآراء- ليون برخو
قد تختلف نظرة الشعوب والثقافات حول مفهوم السعادة، إلا أن تربع فنلندا على عرش أكثر الدول في العالم سعادة ولثلاثة أعوام متتالية حث كثيرين على البحث عن السر الذي يجعل الفنلنديين أكثر الناس انشراحا على وجه المعمورة.
وفنلندا من الدول التي تجاور السويد حيث أعيش وأعمل.
وكانت فنلندا حتى الحرب العالمية الثانية دولة متخلفة مقارنة بالسويد. وهاجرت أمواج من المواطنين الفنلنديين إلى السويد بحثا عن عمل ودرءا للفقر. واليوم تعد الجالية الفنلندية أكثر الجاليات الأجنبية عددا في السويد حيث يبلغ تعدادهم نحو نصف مليون نسمة.
وصار التصنيف الذي تعده الأمم المتحدة كل عام حول درجات سعادة الأمم واحدا من أكثر التصانيف جذبا للانتباه والتغطية الإعلامية، ومعه أضحت فنلندا وسكانها محط حسد ودراسة لمعرفة الأسباب التي تكمن وراء بهجتهم.
القياسات التي تصنف بموجبها شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة دول العالم على سلم السعادة ليست جديدة أو مستنبطة خصيصا لهذا الغرض. تأخذ الشبكة مسائل مثل الرعاية الاجتماعية، والتربية والتعليم والحريات الاجتماعية والشفافية والناتج القومي ونصيب الفرد منه، وتوافر الصحة وجودتها في الحسبان لتسلسل الأمم على سلم السعادة العالمي.
بيد أن هذه القياسات بالذات تملكها دول أخرى، وقد تبز فنلندا بها. دول شمال أوروبا ودولا غنية أخرى في بقاع مختلفة من العالم لها من المال والرخاء ما يفوق ما لدى فنلندا. إذن: ما السر في بهجة شعبها وتربعها على عرش سلم السعادة العالمي لثلاثة أعوام متتالية؟
قد لا يتصور الذين يعيشون خارج نطاق الدول الإسكندنافية في شمال أوروبا مدى سعادة الفنلنديين وهم أخيرا نجحوا في مسعاهم ليس في اللحاق في السويد بل التفوق عليها.
وبين فنلندا والسويد وباقي الدول الإسكندنافية علاقات وشيجة كأنها دول متحدة لما يربطها من وشائج وثيقة.
كانت فنلندا تابعة للسويد حتى عام 1917. وكانت اللغة السويدية ولا تزال اللغة الرسمية الثانية فيها بعد الفنلندية. قد لا يتصور القارئ الكريم مقدار الغبطة لدى الفنلنديين وهم يرون أنفسهم الآن في مستوى السويد رقيا وعلما، وفي مضامير محددة مثل التربية والتعليم يتقدمون عليها كثيرا.
كان السويديون يتناقلون النكات اللطيفة حول الفنلنديين ومستواهم المعيشي والثقافي المتدني. هذا كان في السابق.
اليوم يخترع الفنلنديون الذين هم أكثر سعادة من كل شعوب العالم حسب تصنيف الأمم المتحدة، النكات للمداعبة والهزل ولطيف الكلام وهم يمزحون من الحال الذي صارت السويد عليه.
ويتداول الفنلنديون طرفة لمداعبة السويديين والضحك على المسؤولين عن مواجهة الجائحة فيها. النادرة تقول إن السويديين كانوا يعتقدون أن الوباء، بعد أن أثخنهم جراحا، سيرمونه على فنلندا، لكن بقدرة قادر طار فوق فنلندا وحط في روسيا.
في تقارير صحافية ظهرت قبل إطلالة العام الجديد بقليل، كان هناك شبه إجماع على أن السر وراء كون الفنلنديين أكثر سعادة من باقي شعوب العالم يكمن في الثقة المتبادلة بين الشعب والحكومة.
هناك شفافية مطلقة في فنلندا، حيث يعرف الشعب كل ما تعرفه الحكومة. هناك أيضا ثقة مطلقة بأن كل ما تقوم به الحكومة لا بد أن يضع مصلحة الشعب الفنلندي فوق أي مصلحة أخرى.
ولهذا من النادر أن يتذمر أو يشتكي الفنلنديون من الإجراءات التي تتخذها حكومتهم. خذ مثلا التدابير القسرية والقاسية التي اتخذتها فنلندا لمواجهة متحور كورونا الجديد المعروف بأوميكرون.
لم ألحظ أي شكوى أو تذمر في الصحافة أو المؤسسات أو النقابات الفنلندية. وهذا يعاكس ما في السويد حيث أحدثت سياسات الحكومة في مواجهة الجائحة شرخا بينا في صفوف السويديين بين مؤيد ومعارض.
وفي معرض شرحه الأسباب التي جعلت فنلندا قبلة الباحثين عن السعادة في العالم، جاء في تقرير تصنيف السعادة للأمم المتحدة أن فنلندا تعيش في دائرة من الخير وذلك لأن المؤسسات فيها تعمل بصورة حسنة وغايتها تقديم ما يفيد المواطنين أولا وأخيرا. وكانت محصلة تركيز المؤسسات كل جهودها لخدمة الشعب بروز ثقة متبادلة بين الاثنين.
وهذه ليست ظاهرة محصورة في فنلندا حيث تشترك فيها الدول الإسكندنافية الأخرى، إلا أن فنلندا لها شعار تبذل وسعها لتطبيقه على أرض الواقع ومفاده: “الحياة حتى المستوى اليومي يجب أن يكون هدفها العمل على ترتيب الأمور من خلال الثقة المتبادلة وليس العراك حول كيفية ترتيبها”.